حصلت رواية «شوق الدرويش» للقاص السوداني حمور زيادة على جائزة نجيب محفوظ لعام 2014 والتي تمنحها الجامعة الأمريكية بالقاهرة كل عام لأفضل عمل روائي، ورشحت الرواية ضمن القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية لعام 2015. والرواية تتعرض لفترة الثورة المهدية بالسودان في أواخر القرن التاسع عشر (1881-1899). فالخرطوم المدينة التي حكمها الإنجليز تُخرب على يد جيش المهدي. ويقتل حاكمها الإنجليزي «جوردون» فيختار المهدي عاصمته على الضفة المقابلة من النهر حيث تزدهر «أم درمان» لزمن حتى يدخلها الجيش المناوئ.
وعلى هذه الخلفية السياسية يروي حمور زيادة عشق بخيت منديل وهو «عبد أسود» لحواء/ثيودورا الفتاة الإسكندرانية المنشأ، اليونانية الأصل، التي تصل الخرطوم كجزء من البعثة الأرثوذكسية. تعمل ثيودورا بالخرطوم وتعشقها، وتقرر أن تستوطنها حين تقرر عائلتها بمصر العودة إلى اليونان، ولكنها تؤسر فيصطفيها تاجر موسر لنفسه، وعندما تتمنع عليه يعاقبها بالختان مدعيًا الحاجة لتأكيد صحة إسلامها وتمامه، وحين تحاول الهرب يسلمها الأدلاء إليه، فيقتلها. ويتعقب بخيت منديل قاتلي حواء/ثيودورا وخائنيها، فيقتل منهم خمسة وينجو السادس من مصير زملائه لأن بطل الرواية يقع في الأسر. وحين تلوح لبخيت فرصة الهرب يرفضها ويؤثر الموت تقربًا من المحبوبة.
هذا هو المستوى السردي للرواية التي تتشابك فيه شخصيات عديدة تقاطعت خلال مشوار حياة بخيت منديل ومحطاتها العديدة من العبودية إلى الحرية ثم الأسر، ومن الرحيل إلى مصر إلى السجن، ومن الحياة ما بين الخرطوم وأم درمان. أما على المستوى الفني فالرواية مليئة بالرموز الدينية التي تلائم الخلفية التاريخية للأحداث : تصارع بين المد المهداوي والمد المسيحي في السودان الذي ينعكس في آيات من القرآن الكريم وأخرى من الكتاب المقدس، بالإضافة إلى ذلك يتخلل السرد أشعار حب محلية وأخرى عربية لمجنون ليلى وامرئ القيس وغيرهما، وأقوال لكبار المتصوفة مثل ابن عربي والحلاج وغيرهما، توظف جميعها لإثراء السرد القصصي فتندمج في نسيجه وتتوزع بين أقوال تجري على ألسنة شخوص العمل، أو تظهر في رسائلهم، أو تندس بين ثنايا المشاهد الروائية.
وعلى مستوى التحليل الرمزي يمكن النظر إلى الرواية بكونها رمزًا للواقع الحالي، تحيل على زمن تنتشر فيه الحركات السياسية المتدثرة بخطاب ديني تسعى من خلاله إلى قيادة الشعوب إلى طريق الحق بدءًا بمحيطها الأقرب، وامتدادًا إلى شعوب الأرض قاطبة. فيتأمل القاص ضياعها أثناء المسار، حيث يقتضي تحقيق الشعار المثالي طرق دروب الواقع السياسي يمشى خلالها الحالمون على أجساد الأبرياء، فتُغير السياسة معظم الحالمين إلى صور الظلم الممجوجة التي خرجوا محاربين ضدها، بينما تفيق قلة منهم تنأى بنفسها عن الواقع الرديء الجديد/القديم.
ولكنها أيضا رواية تنتمي إلى نموذج خطاب ما بعد الكولونيالية (Postcolonial) فتسعى إلى تفكيك الخطاب الاستشراقي (Orientalist Discourse) الاستعلائي الذي وسم الفترة الاستعمارية، وخاصة في أوج التمدد الاستعماري إبان القرنين الثامن والتاسع عشر، والذي ارتكز على آليات التبشير والتعليم مسوغاً للاستعمار بادعاء تمدين شعوب العالم الثالث البربرية. فالتفوق الاستعماري يتمثل في خطاب ازدراء للآخر المغاير والأقل شأنًا في جوهره. ويزيح السارد ورقة التوت التي اختفى خلفها الخطاب الاستعماري، ويبث في ثنايا الرواية نماذج متعددة من استغلال المستعمِر الأوروبي لشعوب العالم الثالث الْمُستعمَرة، فبالإضافة إلى الاستغلال المادي والاقتصادي، فهناك الاستغلال الجنسي، مثلا الأوروبي مالك بخيت منديل الأول الذي اشتراه لغرضٍ شخصي، والآخر الفرنسي الذي يمتلك أربعين جارية.
كما يتورط الأوربيون في أفعال عنيفة ووحشية على أجساد المستعمَرين في مغالطة صريحة لشعارات التمدن التي رفعوها. فمن أكثر المشاهد إيلامًا في الرواية مشهد جلد الخادمة السودانية لدى البعثة الأورثوذكسية حين اتهمت بالسرقة. والذي برر له الآباء مسؤولو البعثة بكونه ليس عقابهم ولكنها «قوانين الأتراك» وقارنوا بين هذا «الحكم الهّين» وبين حكم المسلمين الذين «يقطعون الأيدي في شيء كهذا». وبمثل هذه التبريرات تطمئن روح ثيودورا (والتي شاهدها القارئ في مواقف سابقة تدمع لذبح غزالة ولموت عصفور) وتصلي من أجل خلاص «روح» الخادمة، وتكتب في مذكراتها «الإنسان متوحش ناكر للجميل، كلما أجهد الراعي نفسه لهداية خراف الرب الضالة كلما اجتهدت في أذيته. سرقت اليوم خادمة سوداء صليبي الفضي». ويجب التأكيد على أن الخادمة السودانية «السوداء» لم تثبت عليها السرقة، ولم تعترف بالرغم من العذاب الواقع على جسدها، وإنما وُجدت قرائن كافية لاتهامها (وليس لإدانتها) بالسرقة. فبذا يلقي الروائي الضوء على التمثيل الخطابي للمستعمَر التابع (subaltern) الذي يعجز عن التعبير عن نفسه في الخطاب الاستعماري فيقوم المستعمِر بتمثيله تمثيلا لا يعبر عن رؤية التابع وإنما عن منظور المستعمِر.
ولعل من أبرز مفردات الحقبة الاستعمارية هي «العنصرية» التي تفرق بين جنس وآخر على أساس اللون، وتحصر المفردات في لونين لا ثالث لهما: الأبيض والأسود. فثيودورا الشابة التي تعترف بصداقة حارس القافلة في أول عهدها ببلاد السودان تراه معيبًا لأنه «بربري أسود». وعندما تمر أعوام نراها ثابتة على موقفها العنصري متمثلاً في رد فعلها إِزاء الخادمة السودانية، كما أوردنا. وعندما يعشقها بخيت منديل ويطلب الزواج منها، ترفض بشدة، وتدعوه بأخيها الأسود. وثيودورا نموذج مثالي للحالة الاستعمارية الأوروبية التي ترفض الاندماج مع أهل البلد الذي استوطنوه. ويطرح السرد نموذجاً آخر لصديقة ثيودورا الكاثوليكية التي تهرب من زوجها مع مجموعة من الأوربيين، تاركة وراءها طفلها لأنه «أسود كأبيه» ولا ينتمي إليها. وهكذا فمع مرور ما يقرب من عشرة أعوام على العيش في بلاد السودان تقطر ثيودورا عنصرية وتعالياً على الآخر المختلف، وترى في نفسها «رسولة الرب إلى بلاد الغنم» . ولذا فعوضًا عن التجاوب العاطفي مع بخيت منديل تعمل ثيودورا على تعليمه وتثقيفه فتحدثه عن أمجاد جوردون في حرب القرم وفي الصين، وتعلمه اللغة الإنجليزية لكونها «لغة العالم المتمدن». ولا تلتفت (بوصفها جزءا من المنظومة الاستعمارية التي تدعي «تمدين» العالم الثالث) إلى ما لديه هو ليعلمها إياه.
تدور أحداث رواية «عشق الدرويش» أثناء انتشار أفكار عصر الأنوار الذي انبنى على ثنائيات فكرية يفككها السرد المنتمي إلى عصر ما بعد الكولونيالية. فمن الأبيض والأسود كمرجعية في الفكر الاستعماري، تشير ثيودورا في بداية مذكراتها عن حياتها بالسودان إلى الألوان المختلفة (الأزرق والأخضر والأحمر والأبيض) التي يستخدمها السودانيون للإشارة إلى مختلف الأعراق، ولكنها لا تلتف إلى ذلك ولا تتعلم منه، وإنما تدونه مستهزئة به. كما أن أخطاء ممثلي الإمبراطوريات الاستعمارية سابقة الذكر، لا تلفت نظر ثيودورا، وإنما تتجاوزها كأخطاء فردية لا تمنعها من التغني بعظمة العالم المتمدن، فهي الاستثناءات التي تثبت قاعدة التفوق الأوروبي ولا تنفيها. وعلى نقيض من تشبع ثيودورا بمفاهيم ثنائية جامدة تشغلها عن التأمل النقدي للواقع، وتعيق تطور شخصيتها، يتعلم بخيت منديل من جُل الشخصيات التي يتماس معها خلال منعطفات حياته المختلفة ويتطور. فيتعلم العشق من سيده المصري، ويتعلم الفناء في المحبوب من زميله في زنزانة السجن، فيعشق ثيودورا «البيضاء» بالرغم من نفوره السابق من صاحبات هذا اللون وتفكره في «كيف شوه الله هؤلاء الناس. أجسادهم مسلوخة تكسوها حُمرة». هذا الحب المستحيل الذي يشابه أساطير حب معروفة مثل هيام مجنون ليلى بها، يؤدي ببخيت للتماهي مع المحبوب مثلما في الحب الصوفي، فيرفض فرصة الهرب ويسعى للموت الذي سيقربه إليها.
ومن الثنائيات التي يستخدمها الفكر الاستعماري ثنائية المتن والهامش (duality of center-periphery) التي التفتت إليها دراسات ما بعد الحداثة (Postmodern) فأشارت تلك الدراسات إلى أن المستعمِر الأوروبي يختص بالْمَتْن لنفسه، ويترك الهامش للمستعمَر. ولقد قلبت تلك الدراسات الموقع المتميز للمتن، ونبهت إلى تميز موقع من بالهامش على موقع من بالمتن حيث يضطرهم موقعهم الهامشي للتعرف على ثقافة الآخر (المتن) بالإضافة إلى تعرفهم على ثقافتهم الخاصة (الهامش). وهو ما يلمسه القارئ من خلال حياة بخيت منديل الذي يتعلم الإنجليزية وبعض مفردات الخطاب الديني المسيحي الذي تلقنه ثيودورا إياه، بينما تبقى هي على ثقافتها الأصلية ولا تجد حاجة في تعلم ثقافة من بالهامش.
ونلاحظ أيضًا أن مقابلة بين جمود الموقف الفكري لدى ثيودورا/حواء المبني على السرديات الكبرى (metanarrative) وتراوح الموقف الفكري لدى بعض شخصيات الرواية في التباس الرؤى وتعدد الطرح، متخذة في ذلك موقفاً ما بعد حداثي يليق برواية تنتمي لخطاب ما بعد الاستعمار. يمثل هذا الموقف بوجه خاص «الحسن الجريفاوي» الشاب الصوفي المتدين الذي يكره الظلم الذي يوقعه الأتراك على أهل بلده، فيترك زوجته ويتبع المهدي ويجاهد في سبيل نشر الدعوة المهدية، ولكن تورطه في الدم يؤرقه فينأى بنفسه عن الحرب وينغمس في التجارة وكيلا لأعمال التاجر الموسر مالك حواء/ثيودورا وقاتلها. وعندما يَقتل بخيت منديل التاجر، يُقسم الحسن الجريفاوي على الانتقام له، وبالفعل ينجح في أسر بخيت ولكنه لا يقتله قبل أن يعلم بحاله. وحين يستمع حسن الجريفاوي لقصة بخيت منديل يُسر إليه بإمكانية إطلاق سراحه، ولكن بخيت يتقبل قدره. ويلمح الكاتب في إشارة سريعة إلى التقاء روحي الحسن وبخيت «نظر في عيني الحسن الجريفاوي بتحد. قرأ فيهما تفاهمًا تامًا. عينا الحسن مثله. بهما ذات الحيرة وذات الشوق. سيخبره حكايته». فكل من الحسن وبخيت شخصية ما بعد كولونيالية بامتياز تعلمت من مسار حياتها، فامتلأت حيرة من السرديات الكبرى.
تثري شخصية الحسن الجريفاوي الرواية بتباعدها عن الثنائيات الجامدة لخطاب عصر الأنوار، كما تثريها نماذج نسائية محلية تمتلك الشخصية القوية والعلم المرتبط ببيئتها المحلية كشخصية «مريسيلة». تلك الفتاة الشابة التي حملت بها أمها من جن كما أشيع عنها، والتي تعلمت الطب المحلي والسحر، فأصبحت مرسال الغرام، وملجأ المحتاجين، يصفها لنا القاص بأن «الحب صناعتها، بالسحر لها نسب، ولها مروءة فارس قبيلة». فهي النموذج المثالي للفتاة المحلية واسعة الحيلة التي تفارق التوصيف الضيق للخطاب الاستعماري الذي يسعى إلى إنقاذ «الخراف السوداء الضالة» قليلة الحيلة. فطرح النماذج المحلية (local narrative) وتنوعها يُحَجم السرديات الكبرى (metanarrative) وما ينتج عنها من ادعاءات التفوقية.
وملاحظة أخيرة عن الدرويش «بخيت منديل» ذلك الرجل الذي أسر صبيًا ليوصم طوال عمره بالعبد الأسود (أي أنه وصم بنتاج جريمة غيره، وليس لذنب اقترفه بنفسه) الذي يتعلم طوال مشوار حياته الموشوم بالألم. ذلك التابع (subaltern) الذي يحب فتاة لا تنتمي إلى عالمه الحسي، ولا تلتقي معه في عالمه الروحي ، فوسم بالدروشة. لم يتبوأ بخيت منديل صدارة السرد وحسب وإنما تبوَّأَ أيضًا العنوان بصفته، ليُعلي حمور زيادة من شأن التابع العبد الأسود الدرويش وشوقه المستحيل التحقق.
تنتمي إذن رواية «شوق الدرويش» إلى الصنف الأدبي لروايات «ما بعد الكولونيالية». حيث يناوئ الكاتب «حمور زيادة» فيها النماذج الاستعمارية المبنية على الخطاب الاستعلائي وعلى الثنائيات الفكرية، ويطرح نماذج إنسانية لشخصيات مُستعمَرة تتطور وتنضج في تماسها مع المستعمِر فتصبح «هجيناً» (hybrid) في مقابل نماذج إنسانية جامدة للمستعمِر يرى في نفسه الْمُنقذ والمخلص (ويرى في الآخر أنه أدنى منزلة بشكل مبدئي) فيعيش ويموت في قالبه الجامد بدون تغيير يُذكر. ويقدم قراءة متبصرة لجزء من تاريخ الثورة المهدية يقلب من خلالها موازين الهيمنة المركزية (الْمتن) لصالح الواقع المحلي (الهامش). كما يحتفي بالتنوع الثقافي والعرقي داخل المجتمع السوداني في تلك اللحظة التاريخية. ويعلي من شأن التابع فيتبوَّأ مركز الصدارة بالرواية. وخرج علينا براوية ممتعة تستحق حصد الجوائز.